بقلم: مينا يوسف
نعيش زمناً تحدث عنه الرسول بولس قائلاً: "لأَنَّهُ سَيَكُونُ
وَقْتٌ لاَ يَحْتَمِلُونَ فِيهِ التَّعْلِيمَ الصَّحِيحَ... لأَنَّهُمْ لَمْ
يَقْبَلُوا مَحَبَّةَ الْحَقِّ حَتَّى يَخْلُصُوا". (2 تيموثاوس 4: 3؛ 2
تسالونيكي 2: 10). نعيش وسط أناس يرون أن العلم ينفخ، وأن التعليم جاف، ويهرولون
وراء الإظهارات الروحية، والعظات الحماسية والكورسات النفسية. يقرأون كلمة الله
مقحمين أفكارهم واختباراتهم عليها، ولا يتركونها تتحدث وتحكم هي عليهم! إننا نعيش
وسط أناس منفوخون بالرؤى والألسنة والنشوى الروحية والذكاء الوجداني، وحياتهم في
الخفاء غير مثمرة، وبيوتهم خربة!
يهرولون وراء مدعو النبوة ليخبروهم بالطالع حول مستقبلهم، لا يختلفون
كثيراً عن طالبي العرافة وسائلي الجان! نراهم يتفاءلون بأرقام أو بتساقط الأمطار،
تماماً كما يتشاءم الآخرون من رقم 13! يتعاملون مع كلمة الله كتعامل غير المؤمنين
مع الأبراج وحظك اليوم. فهذا هاجر لأنه قرأ آية تقول "كَفَاكُمْ قُعُودٌ فِي
هذَا الْجَبَلِ" (تثنية 1: 6)، وأخرى فاتها قطار الزواج لأنها قرأت آية في
خلوتها المنتظمة تقول: "نَصِيبِي هُوَ الرَّبُّ، قَالَتْ نَفْسِي"
(مراثي 3: 24).
هل أعطانا الله الكتاب المقدس لنتعامل معه بهذه الطريقة؟ أنقتطع
الآيات وننتزعها من سياقها، ونضع على فم الله كلاماً ووعوداً لا يقولها النص في
الأساس. إنهم لا يقرأون كلمة الله كما هي، إنما يقرأون ما يريدون أن يسمعوه!
يقرأون باحثين عن معان خفية وأسرار كونية مخفية بين ثنايا السطور، لتخاطبهم عن
واقعهم بما لم يقوله أو يقصده الله حقاً! متناسيين أن الله ليس مسئولاً عن
انطباعاتهم الشخصية، ولكن عما قاله حقاً في كلمته!
نراهم يهرولون وراء العلامات التجارية ليس فقط في المأكل والملبس، بل
أيضاً في الاجتماعات! نراهم يتسابقون لحضور أو مشاهدة مؤتمرات لها أسماء رنانة،
حتى ولو قال الواعظ الشهير فيها أن المسيح تخلى عن لاهوته في الصليب (حدث بالفعل،
مؤتمر آي هوب، الولايات المتحدة، ديسمبر 2016). ولم يروا فيها أي غضاضة أو كارثة
أو أي شبهة أو تشابه مع شهود يهوه! فالمهم هي النشوى والتعزية النفسية التي يحصلون
عليها من هذه المؤتمرات، والتي يطلقون عليها "نقلة روحية"!
لقد أصبح المقياس ليس التعليم الصحيح ولكن النشوى والتعزية والزيادة
العددية. فكلما التهبت مشاعرهم النفسية، أطلقوا على هذا المكان إنه اجتماعاً
ممسوحاً أو واعظاً قديراً. يذهبون لاجتماعاتٍ لمجرد أن بها "وقت تسبيح
حلو"! منذ متى والاجتماعات عبارة عن وقت تسبيح فقط؟ إنهم أشبه بطفل يريد أن
يأكل المربى تاركاً الخبز الذي يغذيه! لذا فلا عجب أن يصل مستوى ترانيمنا اليوم من
الضحالة والركاكة ما يعجز عن وصفه، في حين كان ينبغي أن نقدم لله أفضل وأغنى وأعمق
وأصدق كلماتنا وأن ينعكس فيها كل زخم لاهوتنا وخبراتنا الروحية.
في مسلسل "ونوس" الذي كان يرمز للشيطان، نصح الداعية
الديني قائلاً: "عشان تلم الناس حواليك وتشتهر، انت محتاج توعدهم
وتطمنهم"! إنه حال أشبه بحال وعاظنا اليوم، لا يكرزون بالمسيح وبالانجيل، بل
بالنهضات والأمجاد والشفاءات!! فما يطلبه المستمعون ليس أن تٌفصّل كلمة الحق لهم
باستقامة (2 تيموثاوس 2: 15)، بل رسائل الأنبياء الكذبة القائلين سلام وليس سلام
(حزقيال 13: 10)!! يريدون من يقول لهم أنهم أقوياء ويمسكون بزمام مصيرهم وحياتهم،
وأنهم مسيطرون على كل شيء؛ حتى الله يفعل لهم كل رغباتهم إن طلبوها بإيمان!!
إن المؤمنون اليوم هم مجموعة من الأيتام المشردين. بالتأكيد أنا أؤمن
أن الكنيسة أكثر من مجرد جدران، ولكن هذا لا يعني أن نكون في الشارع! تستطيع أن تراهم
مبددين بعد موت قائدهم، متخبطون بلا كنيسة أو مأوى، يهرولون وراء قائدٍ آخر
لينتشلهم من يُتمهم ويُنسيهم تشردهم!
لقد أصبح الاهتمام بالتعليم الصحيح النقي من كلاسييات الزمن الجميل.
فكل شيء نسبي، ولا يوجد شيء اسمه "الحق الكتابي"، والفيصل النهائي على
صحة تعليم أو تفسير نصٍ هو العقل! لقد نصّبوا عقولهم كحكمٍ فوق المكتوب! فما لا
يقبله العقل، لا يكون صحيحاً؛ تلك هي قاعدتهم! ويا له من أمر خبيث له تداعيات خطيرة
للغاية! فكيف سيحكم عقلك إذاً على الميلاد العذراوي؟ أو على المسيح أنه قام من
الأموات وصعد بجسده في الهواء إلى السماء؟ فهذه الأمور وغيرها الكثير تتطلب منّا
أن نُخضع عقولنا للمكتوب، ولا نرفض المكتوب لأنه يتنافى مع عقولنا.
لو عاش المسيح بيننا اليوم، وسمعناه يتكلم عن الجحيم والويلات على
الفريسيين، أنه الحق والطريق الحصري الوحيد إلى الآب؛ لكنّا نقدنا تحركاته وحكمنا
على دوافعه واتجاهاته في الخدمة. كنا سننعته بالسلفي والأصولي وعديم المحبة
والمتكبر والذي يدين غيره، إلى آخر قائمة السُباب التي يلصق بها أرباب الليبرالية
وما بعد الحداثة كل من يتكلم عن حق الإنجيل. أما كل من آتى بأفكار شاذة وغريبة عن مجرى اللاهوت الكتابي، مستخدماً كلماتٍ مركبة وأفكار مطرقعة حباً في الظهور والتعالي، ندعوه بالمُصلِح والمجدد والمفكر العميق.
إنهم يدّعون أن كل حقيقة هي نسبية، ويستخدمون هذا المبدأ تماماً كما
استخدم الإخوان المسلمين الديمقراطية كسُلمٍ ليضمنوا إخضاع العقول لهم. إنهم
متسامحون مع كل الأفكار وكل التفاسير إلى أن يسمعونك تتحدث عن المسيح، والخلاص، وكلمة
الله المعصومة، حينها سيتبدد وجه التعددية وحديثهم عن النسبية والتسامح، لتجدهم
يهاجمونك ويدافعون عن نسبيتهم كما لو كانت حقٌ مُطلق جديد.
إني أشبهها بأب ذهب ليقدّم أوراق قبول أبنه في إحدى المدارس، وتفاجأ بذلك الحديث العبثي من مدير
المدرسة:
نحن نتبع
الآن أفضل صيحة في العالم. فالمجتمعات تتطور وعلينا أن نتطور معها. لقد وضعنا
للتلاميذ أفضل برامج رياضية وترفيهية ومزجناها بأفضل النغمات الموسيقية لإمتاعهم
وتسليتهم. لا توجد لدينا مناهج للتعليم، فالحق نسبي، أهم شيء هو الحب وقبول
الآخر، وأن يروق لطلابنا ما يسمعوه. التعليم يفرق لكن المحبة تجمّع، وأهم شيء أن
يحبوا المدرسة، ويفيدوا مجتمعاتهم. كل معلمٍ يدخل الفصل ويقول ما يشعر به، وما
يراه مناسباً للطلبة في ذلك اليوم.
فإن كنا لا نقبل أن يلتحق أبنائنا بمثل هذه المدرسة، فلماذا نقبل على
أنفسنا أن يكون ذلك حال كنائسنا؟ لماذا نقبل أن نكون محمولين بكل ريح تعليم من
أشخاص غير متعلّمين، وإن تعلّموا فهم غير مختبرين؟ طالما ارتضينا وقبلنا أن نعلّم
ونعظ الآخرين، علينا أن نصير نحن أنفسنا تلاميذ نتعلّم ونعمل ما يقوله الرب من
خلال ما سجله لنا كتبة الوحي وحفظه الروح القدس لنا في الكلمة المقدسة.
إن حال مجتمعنا المسيحي اليوم أشبه بوصف الله لشعبه القديم حين قال:
"كُلُّ الرَّأْسِ مَرِيضٌ، وَكُلُّ الْقَلْبِ سَقِيمٌ" (إشعياء 1: 5).
فحق الإنجيل ضائع بين شعوذة الكاريزماتيين، وفساد الليبراليين، وشكلية الطقسيين.
إنه الوقت لنستيقظ!
ضاع حق الأنجيل بين النسبية و المشاعر والوعود البراقة.. و يُعلمون بما يريد أن يسمعه الناس لا بما تقوله كلمة الله
ReplyDelete